الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ }

{ ولئن أتيتَ } عطف على قولهوإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون } البقرة 144، والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعملون فلما أفيد أنهم يعلَمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطَّمع في اتِّباعهم القِبْلَة لدفع توهم أن يَطْمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتِّباعهم بالقَسَم واللام الموطئة، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادةً. والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون } على ما تقدم فإن ما يفعله أحْبارهم يكون قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجْدَرُ بعامتهم أن لا يتبعوها. ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن. والمرادُ { بكل آية } آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفِية. وإطلاق لفظ كل على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس
فيالكَ من ليللٍ كأنَّ نُجُومَه بكل مُغَار الفَتْل شُدَّت بيذبُل   
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابهاً لمجموع عموم أفراده، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينة ولا إلى اعتبار تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يَرِد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد، مثل قوله هنا { بكل آية } فإن الآيات لا يتصور لها عدد يُحاط به، ومثله قوله تعالىثم كلي من كل الثمرات } النحل 69 وقولهإن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون } يونس 96 وقال النابغة
بها كُلُّ ذُيَّالٍ وخَنْسَاءَ تَرْعَوِى إلى كُلِّ رَجافٍ من الرمل فارد   
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنترة
جادت عليه كل بِكْر حُرَّة فتَرَكْنَ كُلَّ قرارةٍ كالدِّرهَم سَحَّاً وتَسْكَاباً فكُلَّ عَشِيَّةٍ يجري إليها الماء لم يتَصَرَّم   
وصاحب «القاموس» قال في مادة كل «وقد جاء استعمال كل بمعنى بَعْضٍ ضدٌّ» فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله «بمعنى بعضٍ» وكان الأصوبُ أن يقول بمعنى كَثيرٍ. والمعنى أن إنكارهم أَحَقِّيَّة الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تُزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم. وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قِبلة شرعِه، ولأنه سأَلها بلسان الحال. وإفراد القبلة في قوله { وما أنت بتابع قبلتهم } مع كونهما قبلتين، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة، وأكثرَ من قِبلة إن لم تكن لهم قبلةٌ معينة وكانوا مخيَّرين في استقبال الجهات، فإفراد لفظ قبلتهم على معنى التوزيع لأنه إذا اتَّبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.

السابقالتالي
2 3