الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

استئناف ابتدائي وإفضاء لِشرع استقبال الكعبة ونَسْخِ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقولهسيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } البقرة 142 بَعْد أن مَهَّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعدادِ الناس إلى ترقبه ابتداء من قولهولله المشرق والمغرب } ثم قولهولن ترضىٰ عنك اليهود } البقرة 120 ثم قولهوإذا جعلنا البيت } البقرة 125 ثم قوله { سيقول السفهاء }. وقد في كلام العرب للتحقيق أَلاَ ترى أهلَ المعاني نَظَّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إِنَّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهــــ. ولما كان علم الله بذلك مما لا يَشُك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يُحتاجَ لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يُطَمئِنهَ لأن النبي كان حريصاً على حصوله ويَلزم ذلكَ الوعدُ بحصوله فتحصل كنايتان مترتبتان. وجيء بالمضارع مَعَ قد للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجْل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل. قال عبيد بن الأَبْرَص
قد أَتْركُ القِرن مُصْفَرَّا أَنامِلُه كَأَنَّ أَثوابه مُبحَّت بفِرصاد   
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالىقد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } الأنعام 33 في سورة الأنعام. والتقلب مطاوع قَلَّبه إذا حَوَّله وهو مثل قلبهُ بالتخفيف، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالةَ على معنى التكثير في هذا التحويل، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية، قالوا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع في رُوعه إلهاماً أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلاّ لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب. والفاء في { فلنولينك } فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكناية في قوله { قد نرى تقلب وجهك } ، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالىما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } البقرة 142، فمعنى { فلنولينك قبلة } لنوجهنك إلى قبلة ترضاها. فانتصب { قبلة } على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك مِن قِبلة وكذلك قوله { فول وجهك شطر المسجد الحرام }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7