الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

هذه الجملة معترضة بين جملة { سيقول السفهاء } الخ وجملة { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } الخ، والواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مِما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عُدولاً خياراً ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة. وقوله { وكذلك } مركب من كاف التشبيه واسمِ الإشارة فيتعيَّن تَعَرُّف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب «الكشاف» «أي مثلَ ذلك الجَعْل العَجيب جعلناكم أمةً وسطاً» فاختلف شارحُوه في تقرير كلامه وتبين مراده، فقال البيضاوي «الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قولهيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } البقرة 142 أي كما جعلناكم أمة وسطاً أو كما جعلنا قبلتكم أفضلَ قِبلة جعلناكم أمة وسطاً» اهــــ. أي إن قوله { يهدي من يشاء } يُومِىء إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاءما وَلاَّهم } البقرة 142 على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يُعَرِّجْ على وصف «الكشاف» الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالباً من دون إرادة بُعد وفيه نظر، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السَّابق فالإشارة حينئذٍ إلى مذكور متقرر في العِلم فهي جارية على سَنن الإشارات. وحمل شراح «الكشاف» الكاف على غير ظاهر التشبيه، فأما الطيبي والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مِثل منتصب على المفعولية المطلقة لِجعلناكم أي مثلَ الجَعْل العجيب جعلناكم فليس تشبيهاً ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله { يهدي } وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في «الكشاف» بالجعل العجيب، فالتعظيم هنا لبداعة الأمر وعجابته، ثم إن القطب ساق كلاماً نقض به صدر كلامه. وأما القزويني صاحبُ «الكشْف» والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائباً مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعلَ جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة. والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبِّه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلاّ أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قوله النابغة «والسفاهة كاسمها» فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة، والإشارة حينئذٍ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9