الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

فائدة تكرير النداء بقوله { ربنا } إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتيربنا وابعث فيهم رسولاً } البقرة 129. والمراد بمسلميْن لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد، ووجه تسمية ذلك إسلاماً سيأتي عند قولهفلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } البقرة 132، وأما قوله تعالىقل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } الحجرات 14 فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوماً وبينهما عموم وخصوص وجهي في المصداق، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان. ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالىما كان إبراهيم يهودياً } في سورة آل عمران 67. ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قولهإذ قال له ربه أسلم } البقرة 131 الآية. وقوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يتعين أن يكون { من ذريتنا } و { مسلمة } معمولين لفعل { واجعلنا } بطريق العطف، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما، ومن في قوله { ومن ذريتنا } للتبعيض، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالىقال ومن ذريتي } البقرة 124. ومن هنا ابتدىء التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك، والتمهيد لشرف الدين المحمدي. والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان، ويقال أمة محمد مثلاً للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي بزنة فُعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليا قبائل العرب، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية، وأما قوله تعالى

السابقالتالي
2