الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ }

استئناف ناشىء عن قولهولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } البقرة 120 مع قولهإن هدى الله هو الهدى } البقرة 120 لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى؟ كأنَّ سائلاً سأل كيف وهم متمسكون بشريعة؟ ومَن الذي هو على هدى ممن اتَّبع هاتين الشريعتين؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وَتَلْوه حقَّ تلاوته هم الذين يؤمنون به. ويجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب، وهو ينظر إلى قوله تعالىوإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } البقرة 91 إلخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعِبر والبيان. فقوله { الذين آتيناهم الكتاب } فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة، وهو من باب رَد العجز على الصدر. ولأحد هذين الوجهين فُصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } ولِما انتُقِلَ منه إليه وهو قولهوقالوا اتخذ الله ولداً } البقرة 116 وقولهوقال الذين لا يعلمون } البقرة 118. وقوله { يتلونه حق تلاوته } حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته. وانتصب { حقَّ تلاوته على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوةً حَقاً. والحق هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قِوام نوْعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو. وقولُه { أولئك يؤمنون به } جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول، وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حدأولئك على هدى من ربهم } البقرة 5 فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوْحَدِيَّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم. فالقصر ادعائي. فضمير { به } راجع إلى الكتاب من قوله { الذين آتيناهم الكتاب }. وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبي الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير { به } عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد.

السابقالتالي
2