الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً }

إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور، كأنه قيل بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلاّ للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - «لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك».ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقولهلقد أحصاهم وعدّهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } مريم 94، 95. ووعد المؤمنين بقولهإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً } مريم 96. والمفرّع هو مضمون { لِتُبَشّر به } الخ { وتُنْذِر به } الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئتَ به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلاّ لذلك.وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السيّاق مثلحتى توارت بالحجاب } ص 32. وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة، كقوله تعالىولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مَّدكِر } القمر 32.واللّسان اللّغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقولهوإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين } الشعراء 192 ـــ 195 فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.والباء للسببية أو المصاحبة.وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّاً لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللّدُ جمع ألدّ، وهو الأقوى في اللّدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح " أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصِم " ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللّدد، قال بعضهم في رثاء البعض
إن تحتَ الأحجار حزماً وعزماً وخصيماً ألدّ ذا مِغلاق   
وقد حَسُن مقابلة المتقين بقوم لدّ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولَدَد.وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، كما قال تعالىفإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } الأنعام 33.وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالىلآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة 164، وقوله تعالىوما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في سورة يونس 101.