الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }

موقع هذه الآية هنا غريب. فقال جمهور المفسرين إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل «ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا» " فنزلت { ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية. أي إلى قوله { نَسِيَّاً } ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.والمعنى أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآناً. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن.ولا شك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن.والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل، قال تعالىلا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } الأنبياء 27.و { نتنزل } مرادف ننزّل، وأصل التنزّل تكلّف النزول، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف. قال تعالىتَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها } القدر 4.واللاّم في «له» للملك، وهو ملك التصرف.والمراد بــــ { مَا بَينَ أيْدِينَا } ما هو أمامنا، وبــــ { وَمَا خَلْفَنا } ما هو وراءنا، وبــــ { ومَا بَينَ ذَلِكَ } ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات.ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثلواسأل القرية } يوسف 82، فيعمّ جميع الكائنات، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله { ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ }.وجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -و { نسِيّاً } صيغة مبالغة من نَسيَ، أي كثيرَ النسيان أو شديده.والنسيان الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان.

السابقالتالي
2