الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } * { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً }

دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها. وفي إنجيل لوقا أنها بقيتْ في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوماً، وهي أيام التطهير من دم النّفاس، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيباً عرفياً مثل تزوّج فوُلد له.و { قَوْمَهَا } أهل محلتها. وجملة { تَحْمِلُهُ } حال من تاء { أتت } وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها.وجملة { قالُوا يامَرْيَم } مستأنفة استئنافاً بيانياً. وقال قومها هذه المقالة توبيخاً لها.وفَرِيّ فعيل من فَرَى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدّي، وهو جاء من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذباً. ومنه قوله تعالىولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } الممتحنة12.ومن أهل اللغة مَن قال إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه، تفرقة بين أفرى وفَرى، وأن فرى المجرد للإصلاح.والأخت مؤنث الأخ، اسم يضاف إلى اسم آخر، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم يا أخا العرب، كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه «يا أخت بني فراس ما هذا؟»، فإذا لم يذكر لفظ بني مضافاً إلى اسم جد القبيلة كان مقدّراً، قال سهل بن مالك الفزاري
يا أخت خير البدو والحضارة كيف تَرَيْن في فتى فزارة   
يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.فقوله تعالى { يا أُخْتَ هارُونَ } يحتمل أن يكون على حقيقته، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحاً في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك، وهذا أظهر الوجهين. ففي «صحيح مسلم» وغيره " عن المغيرة بن شعبة قال «بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا أرأيت ما تَقرؤون { ياأُخْتَ هارُونَ } ومُوسى قبلَ عيسى بكذا وكذا؟ قال المغيرة فلم أدر ما أقول، فلما قدمتُ على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم» " اهــــ. ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلاّ هارون الرسول أخا موسى.ويحتمل أن معنى { ياأُخْتَ هارُونَ } أنها إحدى النساء من ذريّة هارون أخي موسى، كقول أبي بكر يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي.

السابقالتالي
2