الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } * { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }

افتتاح كلام، فيتعيّن أن { ذِكْرُ } خبر مبتدأ محذوف، مثلُه شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين. والتقدير هذا ذكر رحمة ربّك عبده. وهو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون { ذِكْرُ } أصله مفعولاً مطلقاً نائباً عن عامله بمعنى الأمر، أي اذكر ذكراً، ثمّ حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حُول في قولهالحمد لله } وقد تقدم في سورة الفاتحة2. ويرجحه عطفواذكر في الكتاب مريم } مريم 16 ونظائرِه. وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدولِ عن الأسلوب المتعارف في الإخبار، وأصل الكلام ذكر عبدنا زكرياء إذ نادى ربّه فقال رب الخ... فرحمة ربّك، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه، مع ما في إضافة { ربّ } إلى ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى ضمير زكرياء من التنويه بهما. وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شؤون آل بيت مريم وكافلها لأنّ في تلك الأحوال كلها تذكيراً برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه. وزكرياء نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو زكرياء الثاني زوج خالة مريم، وليس له كتاب في أسفار التوراة. وأما الذي له كتاب فهو زكرياء بن برخيا الذي كان موجوداً في القرن السادس قبل المسيح. وقد مضت ترجمة زكرياء الثاني في سورة آل عمران ومضت قصّة دعائه هنالك. و { إذ نادى ربه } ظرف لـــ { رحمتِ }. أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت، أو بدل من { ذكر } ، أي اذكر ذلك الوقت. والنداء أصله رفع الصوت بطلب الإقبال. وتقدم عند قوله تعالىربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } في سورة آل عمران 193 وقولهونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } في سورة الأعراف43. ويطلق النداء كثيراً على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهراً. أي تضرعاً لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام أن زكرياء قال يا رب، بصوت خفي. وإنما كان خفياً لأن زكرياء رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أنّ الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعاً وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالباً، فلعل يقين زكرياء كاف في تقوية التوجه، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفياً، لأنه نداء من يسمع الخفاء. والمراد بالرحمة استجابة دعائه، كما سيصرح به بقولهيا زكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } مريم 7. وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكرياء كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.