الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }

أم للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض. ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضاباً بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود. على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالىفلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } الكهف 6، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثِهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالاً لإمكان البعث. و { أم } هذه هي أم المنقطعة بمعنى بل، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها، يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهراً بعدها كقول أفْنُون التغلبي
أنّى جَزَوا عامراً سُوءاً بضعته أم كيف يجزونني السُّوأَى عن الحسن   
والاستفهام المقدر بعد أم تعجيبي مثل الذي في البيت. والتقدير هنا أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجباً من بين آياتنا، أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف. لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم. وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنَهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولونما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } الجاثية 24. أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باقٍ. وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبر والأسباب وآثارها. ولذلك ابتدىء ذكر أحوالهم بقولهإذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً } الكهف 10 فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقولهإنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } الكهف 13. الآيات الدالِّ على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضاً بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها. ويظهر أن الذين لقنوا قريشاً السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف. ومحل التعجب هو قوله { من آياتنا } ، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها.

السابقالتالي
2 3 4 5