الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } * { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } * { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } * { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }

المشار إليه بلفظ { هٰذَا } مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال الشرطُ أمْلَك عليك أمْ لك. وكثيراً ما يكون المشار إليه مقدراً في الذهن كقوله تعالىتلك الدار الآخرة } القصص83. وإضافة { فراق } إلى { بيني } من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله فراقٌ بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج بين عن الظرفية عند قوله تعالىفلما بلغا مجمع بينِهما } الكهف61. وجملة { سأُنْبِئُك } مستأنفة استئنافاً بيانياً، تقع جواباً لسؤال يهجس في خاطر موسى - عليه السلام - عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر - عليه السلام - وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يُحدث له ذكراً مما يفعله. والتأويل تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضاً عند قوله تعالىوما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون } الخ.. من أول سورة آل عمران 7. وفي صلة الموصول من قوله { مَا لَمْ تَسْتطِع عليه صَبْراً } تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله { فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً }. والمساكين هنا بمعنى ضعَفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويُرَق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم. فليس المراد أنهم فقراء أشدّ الفقر كما في قوله تعالىإنما الصدقات للفقراء والمساكين } التوبة60 بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يُرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين «... مسكين ابن آدم وأيّ مسكين». وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد. ومعنى { وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ } هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخّر كل سفينة يجدها غصباً، أي بدون عوض. وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملِك في مصالح نفسه وشهواته، كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام. ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كلّ بحسب حاله من الاحتياج لأنّ ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها. و { وراءَ } اسم الجهة التي خلفَ ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم، وهو ضد أمام وقدّام. ويستعار الوراء لحال تعقب شيء شيئاً وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريباً، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4