الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً }

لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما " قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش «إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي؟ فقالوا ما جربنا عليك كذباً» فقال «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» " ومَنْ المجرورةُ موصولة. وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة }. والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه. وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل. ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم. فــــمَن استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم. والنسيان مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالىما ننسخ من آية أو ننسها } في سورة البقرة 106. ومعنى { ما قدمت يداه } ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جارياً مَجرى المثل، قال تعالى { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد } ، وقال { وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم }. والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول منها مشركو أهل مكة. وجملة { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } مستأنفة بيانية نشأت على جملة { ونسي ما قدمت يداه } ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية. والقلوب مرادُ بها مَدارك العلم. والأكنة جمع كِنان، وهو الغِطاء، لأنه يُكن الشيء، أي يَحجبه. و { أن يفقهوه } مجرور بحرف محذوف، أي مِنْ أن يفقهوه، لتضمين { أكنة } معنى الحائل أو المانع. والوقر ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ. والضمير المفرد في { يفقهوه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات. وجملة { وإن تدعهم إلى الهدى } عطف على جملة { إنا جعلنا على قلوبهم } ، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل. وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو لن، وبلفظ أبدا المؤكد لمعنى لن، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط. وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.