الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }

عطف على جملةولقد صرفنا في هذا القرآن } الكهف 54 الخ. ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملةوكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } الكهف 54 معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس. ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله وما منع الناس } وبقوله { إذ جاءهم الهدى } دون أن يقول وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها. على أن عموم { الناس } هنا أشمل من عموم لفظ { الناس } في قولهولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } الكهف 54 فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله. وكذلك عموم لفظ { الهدى } يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم. فالمعنى ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير. والمراد بــــ { الأولين } السابقون من الأمم في الضلال والعناد. ويجوز أن يراد بهم الآباء، أي سنة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم، ولكل أمة أمةٌ سبقتها. و { أن تأتيهم } استثناء مفرغ هو فاعل { وما منع }. «ولن يؤمنوا» منصوب على نزع الخافض، أي من أن يؤمنوا. ومعنى { تأتيهم سنة الأولين } تحل فيهم وتعتريهم، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم. والمعنى أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم، كما قال تعالىأتواصوا به بل هم قوم طاغون } الذاريات 53. وسنة الأولين طريقتهم في الكفر. وإضافة سنة إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله، أي السنة التي سَنّها الأولون. وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة. والمعنى ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم. وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته. و أو هي التي بمعنى إلى، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب } بأن مضمرة بعدأو. و أو متصلة المعنى بفعل { منع } ، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين.

السابقالتالي
2