الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }

عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قولهواضرب لهم مثلاً رجلين } الكهف 32 وقولهواضرب لهم مثل الحياة الدنيا } الكهف 45. ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظراً إلى قولهواتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } الكهف 27 وقولهوقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الكهف 29 فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هدي من جملة هدي القرآن الذي تبرمُوا منه. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قولهولقد صرفا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } في سورة الإسراء 89 سوى أنه يتجه هنا أن يُسأل لم قُدم في هذه الآية أحد متعلِقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله { في هذا القرآن } على قوله { للناس } عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس. والناس اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون، كما دل عليه جملةُ { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } ، فوزانه وزان قولهولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } الإسراء 89، وسيجيء قولهويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } الكهف 56. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة. وجملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم، وحرف ال فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس. والمعنى أنهم جادلوا. والجدال خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين، ومنه محمود كما في قوله تعالىفلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب } هود 74، 75، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالىيقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } مريم 66 ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل } الآية، فقوله هنا { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } تمهيد لقوله بعدهويجادل الذين كفروا بالباطل } الكهف 56. و شيء اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قولهرب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه }

السابقالتالي
2