الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } * { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }

تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تالياً لقولهلينذر بأساً شديداً من لدنه } الكهف 2 باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بَشر به المؤمنين. وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جَرَيْتَ على تخصيص البأس في قولهبأساً شديداً } الكهف 2 بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايراً لما قبله وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل { ينذر } تأكيدا، فكان عطفه باعتبار أن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فِعل { ينذر } السابق يُعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين، وهو يُومىء إلى المنذرَين المحذوف في قولهلينذر بأساً شديداً } الكهف 2 ويغني عن ذكره. وهذه العلة أثارتها مناسبه ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتماداً على مقابِلِه المبشر به. والمراد بـ { الذين قالوا اتخذ الله ولداً } هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب. والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عُرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعاً عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد. والولد اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع. وتقدم في قولهقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } في سورة يونس 68. وجملة { ما لهم به من علم } حال من { الذين قالوا }. والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من { قالوا }. ومن لتوكيد النفي. وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذباً ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالىومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } المؤمنون117. وضمير { به } عائد على مصدر مأخوذ من فعل { قالوا } ، أي ما لهم بذلك القول من علم. وعطف { ولا لآبائهم } لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولونإنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } الزخرف 23، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم. استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع. ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية. وفعل { كبرت } ــــ بضم الباء ــــ. أصله الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازاً في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام. ودل على قصد التعجيب منها انتصاب { كلمة } على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام.

السابقالتالي
2