الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } * { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً }

عطف على جملةواضرب لهم مثل الحياة الدنيا } الكهف 45. فلفظ يومَ منصوب بفعل مضمر، تقديره اذكر، كما هو متعارف في أمثاله. فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به، وذلك مقابلة لضده المذكور في قولهوالباقيات الصالحات خير } الكهف 46. ويجوز أن يكون الظرف متعلقاً بمحذوف غير فعل اذكر يدل عليه مقام الوعيد مثل يَرون أمراً مفظعاً أو عظيماً أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع. ويقدر المحذوف متأخراً عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه. ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بفعل القول المقدر عند قوله { لقد جئتمونا } إذ لا يناسب موقعَ عطف هذه الجملة على التي قبلها، ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله. وتسيير الجبال نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم، وهو مثل قوله تعالىوإذا الجبال سيرت } التكوير 3 وقوله تعالىوترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } النّمل 88. وقيل أطلق التسيير على تناثر أجزائها. فالمراد ويوم نسير كل جبل من الجبال، فيكون كقولهوتكون الجبال كالعهن المنفوش } القارعة 5 وقولهوبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً } الواقعة 5 6 وقولهوسيرت الجبال فكانت سراباً } النبأ 20. والسبب واحد، والكيفيتان متلازمتان، وهو من أحوال انقراض نظام هذا العالم، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث. وقرأ الجمهور { نسير } بنون العظمة. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمرو { ويوم تُسيّر الجبال } بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع { الجبال }. والخطاب في قوله { وترى الأرض بارزة } لغير معين. والمعنى ويرى الرائي، كقول طرفة
ترى جُثْوَتَيْن من تراب عليهما صفائحُ صمٌّ من صَفيح مُنَضد   
وهو نظير قولهفترى المجرمين مشفقين مما فيه } الكهف 49. والبارزة الظاهرة، أي الظاهر سطحها، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان، كقوله تعالىفإذا هم بالساهرة } النازعات 14. وجملة { وحشرناهم } في موضع الحال من ضمير { تُسير } على قراءة من قرأ بنون العظمة، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ { تُسير الجبالُ } بالبناء للنائب. ويجوز أن نجعل جملة { وحشرناهم } معطوفة على جملة { نسير الجبال } على تأويله بــــ نحشرهم بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه. والمغادرة إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به، وضمائر الغيبة في { حشرناهم } و { منهم } ــــ { وعُرضوا } عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قولهواضرب لهم مثل الحياة الدنيا } الكهف 45. وعَرض الشيء إحضاره ليُرى حاله وما يحتاجه. ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم. وفي الحديث " عُرضت عليّ الأمم "

السابقالتالي
2