الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }

{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }. هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف، فهو مشارك لقولهواتل ما أوحى إليك من كتاب } الكهف 27. الآية وتقدم في سورة الأنعام 52 عند قوله تعالىولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتَوْا إلى مجالسة النبي واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليْه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة. وما هنا آكدُ إذْ أمرَه بملازمتهم بقوله { واصبر نفسك } ، أي احبسها معهم حبس ملازمة. والصبر الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المَصْبورة وهي الدابة تشد لتُجعل غَرضاً للرمي. ولتضمين فعل اصبر معنى الملازمة علق به ظرف مع. و { الغداة } قرأه الجمهور ــــ بألف بعد الدال ــــ اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعَشي المساء. والمقصود أنهم يدعون الله دعاءً متخللاً سائر اليوم والليلة. والدعاء المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات. والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة. وقرأ ابن عامر { بالغَدْوَةِ } ــــ بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة ــــ وهو مرادف الغداة. وجملة { يريدون وجهه } في موضع الحال. ووجه الله مجاز في إقباله على العبد. ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم. وظاهر { ولا تعد عيناك عنهم } نَهْي العينين عن أن تَعْدُوَا عن الذين يدعون ربهم، أي أن تُجاوزاهم، أي تبعُدَا عنهم. والمقصود الإعراض، ولذلك ضمن فعل العَدْو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول بــــ عن وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال عداه، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى ولا تعدّي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع. وجملة { تريد زينة الحياة الدنيا } حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت. وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة. هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تُجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما صدق مَن كل من اتصف بالصلة، وقيل نزلت في أمية بن خَلَف الجُمَحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة قريش.

السابقالتالي
2