الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }

لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه عبرة وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حُول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى. فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيضِ العلم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبيّنها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله. وفي هذا رد عجز السورة على صدرها. وقيل نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تقول، أي في سورة الإسراء { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وقد أوتينا التّوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالىوما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } في سورة الإسراء 85. وقال الترمذي عن ابن عباس قال حيي بن أخطب اليهودي في كتابكمومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } البقرة269 ثم تقرأون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، فنزل قوله تعالى { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي... } الآية. وكلمات الله ما يدلّ على شيء مِن علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به. فإذا أخبر به صار كلمة، ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل. ونظيرها قوله تعالىولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } لقمان27. وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلّق الصلوحي لصفة العلم. وقل من يتنبه لهذا التعلّق. ولما كان شأن ما يُخبِر الله به على لسان أحد رسله أن يكتَب حرصاً على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبَر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورُمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المِداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيُّل الأظفار للمنية. فيكون ما هنا مثل قوله تعالى { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحِبر.

السابقالتالي
2