الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } * { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } * { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }

{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } الترك حقيقته مفارقة شيء شيئاً كان بقربه، ويطلق مجازاً على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلاً لحال إلفائه على حالة، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه، وإنما يكون هذا المجاز مقيداً بحالة كان عليها مفعول تَرك، فيفيد أن ذلك آخر العهد، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة. والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله { حتى إذا بلغ بين السدين } فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج، بمنزلة جملة { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } في القصة الأولى، وجملة { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد. و { يومئذ } هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله { فما اسطاعوا أن يظهروه } الآية. و { يَمُوج } يضطرب تشبيهاً بموج البحر. وجملة { يَمُوج } حال من { بعضهم } أو مفعول ثان لــــ { تَرَكنا } على تأويله بــــجعلنا، أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصراً عليهم ودفع عن غيرهم
والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله   
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء. { وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَـٰهُمْ جَمْعاً } { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَـٰفِرِينَ عَرْضاً * ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }. تخلصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر، تذكيراً للسامعين بأمر الحشر وتقريباً بحصوله في خيال المشركين. فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد، بفعل من يسره لذلك من خلقه، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب. وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات البعث. واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيهاً على تحقيق وقوعه. والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيهاً لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة. والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى. وتأكيد فعلي { جمعناهم } و { عرضنا } بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل.

السابقالتالي
2