الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }

إذ ظرف مضاف إلى الجملة بعده، وهو متعلق بــــكانوا } الكهف 9 فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها. ويجوز كون الظرف متعلقاً بفعل محذوف تقديره اذكر، فتكون مستأنفة استئنافاً بيانياً للجملة التي قبلها. وأياً ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيهاً على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييداً لهم لأجل إيمانهم، فلذلك عطف عليه قوله { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة }. وأوى أُوِياً إلى المكان جعله مسكناً له، فالمكان المَأْوَى. وقد تقدم عند قوله تعالىأولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } في سورة يونس 8. والفتية جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل إذ أووا إلى الكهف. ودلت الفاء في جملة { فقالوا } على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة { من لدنك } للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في من معنى الابتداء وفي لدن معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء. و من في قوله { من أمرنا } ابتدائية. والأمر هنا الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً، وأن أنامهم نوماً طويلاً ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصوراً متبعاً، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.

السابقالتالي
2