الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً }

جملة { أو لم يروا } عطف على جملةذلك جزاؤهم } الإسراء 98 باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوفُ عليها من الردع عن قولهمأإذا كنا عظاما ورفاتاً } الإسراء 98. فبعدَ زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالته كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري. وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاماً ورفاتاً، أي بتعذر إعادة خلق أمثال تلك الأجزاء، ولم يستدلوا بدليل آخر، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من عدم أوْغَل في الفناء دليلاً يقطع دعواهم. والاستفهام في { أو لم يروا } إنكاري مشوب بتعجيب من انتفاء علمهم، لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر. والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادراً، وذلك ليس من المبصرات. والمعنى أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم. وضمير { مثلهم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { يروا } وهو { الناس } في قولهوما منع الناس } الإسراء 94 أي المشركين. والمِثْل المماثل، أي قادر على أن يخلق ناساً أمثالهم، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقاً آخر، ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مِثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له. ويجوز أن يكون لفظ مِثل هنا كناية عن نفس ما أضيف إليه، كقول العرب مثلك لا يبْخل، وقوله تعالىليس كمثله شيء } الشورى 11 على أحد تأويلين فيه، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ مثله غيرَ زائدة. والمعنى قادر على أن يخلقهم، أي أن يعيد خلقهم، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض. ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل تكون الإعادة عن عدم، وقيل تكون عن جمع ما تَفرق من الأجسام. وقيل يَنبت من عَجْب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرةَ تلك النواة. ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو الإنكار عليهم، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه. وجملة { وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه } معطوفة على جملة { أو لم يروا } لتأويلها بمعنى قد رأوا ذلك لو كان لهم عقول، أي تحققوا أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلاً لا ريب فيه.

السابقالتالي
2