الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } * { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }

بعد أن عُدّت أشكال عنادهم ومَظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشراً مثلهم. فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير، فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، وما قصدهم من مختلف المقتَرحات إلا إرضاءُ أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا إن ذلك سحر، أو قلوبنا غلف، أو نحو ذلك. ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضاً رد بالخصوص لقولهمأو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } الإسراء 92 ورد لقولهمأو ترقى في السماء } الإسراء 93 إلى آخره. وقوله { إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا } يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه. ولذلك جعل قولهم ذلك مانعاً من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم. وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلاً لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم. فالظاهر حمل التعريف في { الناس } على الاستغراق. أي ما منع جميع الناس أن يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوحما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } المؤمنون 24. وحكى مثله عن هودما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } المؤمنون 33-34، وعن قوم صالحما أنت إلا بشر مثلنا } سورة الشعراء 154، وعن قوم شُعيبوما أنت إلا بشر مثلنا } الشعراء 186، وحكى عن قوم فرعونقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } المؤمنون 47. وقال في قوم محمدبل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } ق 2. وإذ شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذه الشبهة بقوله { لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } الآية، فاختص الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصاً لم يُلقنه من سَبق من الرسل، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوامهم فقال عن نوحقال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين } الشعراء 118. وقال مثله عن هود وصالح، وقال عن موسى وهارون،فكذبوهما فكانوا من المهلكين } المؤمنون 48، فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الضلالة بما يناسب كونه خاتم الرسل، ولهذا قال في خطبة حجّة الوداع إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم.

السابقالتالي
2