الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً }

انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قولهربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر } الإسراء 66 إلى قولهثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } الإسراء 69 إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً، فالكلام استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمتَ. ولا يحسن لفظ يومَ للتعلق بما قبله من قولهوفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } الإسراء 70 على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً، ففتحة { يوم } إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل «اذكر» فيكون { يوم } هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً. والفاء في قوله { فمن أوتي } للتفريع لأن فعْل اذكر المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال. وإما أن تكون فتحته فتحةَ بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل، وهو إما في محل رفع بالابتداء، وخبره جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه }. وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش، وقد حكى ابن هشام عن ابن بَرهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده، أعني قوله { فمن أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله { وأضل سبيلاً }. وتقدير المحذوف تتفاوت الناس وتتغابَن. وبُيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله { فمن أوتي كتابه } الخ. والإمام ما يؤتم به، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته. والمراد به هنا مبين الدين من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة. ومعنى دعاء الناس أن يُدعى يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان، مثل يا أمة محمد، يا أمةَ موسى، يا أمة عيسى، ومثل يا أمة زَرادشت. ويا أمةَ برْهَما، ويا أمةَ بُوذا، ومثل يا عبدة العزى، يا عبدة بَعل، يا عبدةَ نَسْر. والباء لتعدية فعل { ندعو } لأنه يتعدى بالباء، يقال دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم. وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم. وفرع على هذا قوله { فمن أوتي كتابه بيمينه } تفريع التفصيل لما أجمله قوله { ندعوا كل أناس بإمامهم } ، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه، أي كتاب أعماله بيمينه. وقوله { فمن أوتي } عطف على مقدر يقتضيه قوله { ندعوا كل أناس بإمامهم } أي فيؤتَوْن كتبهم، أي صحائف أعمالهم. وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين. وتلك علامة عناية بالمأخوذ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً قال تعالى

السابقالتالي
2 3