الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } * { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }

تفريع على جملةأعرضتم } الإسراء 67، وما بينهما اعتراض، وفرع الاستفهام التوبيخي على إعراضهم عن الشكر وعودهم إلى الكفر. والخسف انقلاب ظاهر الأرض في باطنها من الزلزال. وتقدم في قولهأفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض } في سورة النحل 45. وفي هذا تنبيه على أن السلامة في البر نعمة عظيمة تنسونها فلو حدث لكم خسف لهلكتم هلاكاً لا نجاة لكم منه بخلاف هول البحر. ولكن لما كانت السلامة في البر غيرَ مُدرك قدرُها قلَّ أن تشعر النفوس بنعمتها وتشعر بخطر هول البحر فينبغي التدرب على تذكر نعمة السلامة من الضر ثم إن محل السلامة معرض إلى الأخطار. والاستفهام بقوله { أفأمنتم } إنكاري وتوبيخي. والجانب هو الشق. وجعل البر جانباً لإرادة الشق الذي ينجيهم إليه، وهو الشاطىء الذي يرسون عليه، إشارة إلى إمكان حصول الخوف لهم بمجرد حلولهم بالبر بحيث يخسف بهم ذلك الشاطىء، أي أن البر والبحر في قدرة الله تعالى سيان، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في البر والبحر. وإضافة الجانب إلى البر إضافة بيانية. والباء في { يخسف بكم } لتعدية { يخسف } بمعنى المصاحبة. والحاصب الرامي بالحصباء، وهي الحجارة. يقال حصبه، وهو هنا صفة، أي يرسل عليكم عارضاً حاصباً، تشبيهاً له بالذي يرمي الحصباء، أي مطر حجارةٍ، أي بَرَد يشبه الحجارة، وقيل الحاصب هنا بمعنى ذي الحصباء، فصوغ اسم فاعل له من باب فاعل الذي هو بمعنى النسب مثل لاَبِنٍ وتَامِرٍ. والوكيل الموكل إليه القيامُ بمهم موكله، والمدافع عن حق موكله، أي لا تجدوا لأنفسكم من يجادلنا عنكم أو يطالبنا بما ألحقناه بكم من الخسف أو الإهلاك بالحاصب، أي لا تجدوا من قومكم وأوليائكم من يثأر لكم كشأن من يلحقه ضر في قومه أن يدافِع عنه ويطالب بدمه أولياؤُه وعصابتُه. وهذا المعنى مناسب لما يقع في البر من الحدثان. و أم عاطفة الاستفهام، وهي للإضراب الانتقالي، أي بل أأمنتم، فالاستفهام مقدر مع أم لأنها خاصة به، أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح. والتارة المرة المتكررة، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال. وقيل هي واو. والأول أظهر لوجوده مهموزاً وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل فأس وفاس، وكأس وكاس. ومعنى { أن يعيدكم } أن يُوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم، كما يدل عليه السياق وتفريعُ { فيرسل } عليه. والقاصف التي تقصف، أي تكسر. وأصل القصف الكسر. وغلب وصف الريح به. فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث، مثل { عاصف } في قوله

السابقالتالي
2