الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } * { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }

جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة، ولذلك فصلت جملة { قال } على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالىقالوا أتجعل فيها } البقرة 30. والذهاب ليس مراداً به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل، أي امض لشأنك الذي نويته. وصيغة الأمر مستعملة في التسوبة وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة
فإن كنتَ سيدنا سُدتَنا وإن كنتَ للخال فاذْهَبْ فخَلْ   
وقوله { فمن تبعك منهم } تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالىقال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } طه 97. والجزاء مصدر جزاه على عمل، أي أعطاه عن عمله عوضاً. وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق. والموفور اسم مفعول من وفره إذا كثّره. وأعيد { جزاء } للتأكيد، اهتماماً وفصاحةً، كقولهإنا أنزلناه قرآناً عربياً } يوسف 2، ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل. وأصل الكلام فإن جهنم جزاؤكم موفوراً. فانتصاب { جزاء } على الحال الموطئة، و { موفوراً } صفة له، وهو الحال في المعنى، أي جزاء غير منقوص. والاستفزاز طلب الفَزّ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل. والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء، أي استخفهم وأزعجهم. والصوت يطلق على الكلام كثيراً، لأن الكلام صوت من الفم. واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس. ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله { وأجلب عليهم بخيلك } كما سيأتي. والإجْلاب جَمْع الجيش وسوقه، مشتق من الجَلَبة بفتحتين، وهي الصياح، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم. والخيل اسم جمع الفَرس. والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " يا خيلَ الله اركبي " وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته.. ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } من جملة هذا التمثيل. والرّجْل اسم جمع الرجال كصحب. وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً. قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني
وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة تتاح لحبات القلوب نبالها   
ثم قال
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها   
والمعنى أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم. فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة.

السابقالتالي
2