الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } * { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }

عطف على جملةوإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } الإسراء 60 أي واذكر إذ قلنا للملائكة. والمقصود من هذا هو تذكير النبي بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله. وأنهم لا يَعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم عليه السلام، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمُتّ إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون، كما أومَأ إليه قوله تعالىقال اذهب فمن تبعك منهم } الإسراء 63 الآية، ففي ذلك تسلية للنبيء عليه الصلاة والسلام. فأمْرُ الله نبيئه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به، وذكر النبي ذلك موعظةٌ للناس بحال الفريقين لينظر العاقل أين يضع نفسه. وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها. والاستفهام في { أأسجد } إنكار، أي لا يكون. وجملة { قال أأسجد } مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود. وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشىء عن جهله وغروره. وقوله { طيناً } حال من اسم الموصول، أي الذي خلقته في حال كونه طيناً، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين. وإنما جعل جنس الطين حالاً منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس. وجملة { قال أرأيتك } بدل اشتمال من جملة { أأسجد لمن خلقت طيناً } باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله. فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله { أرأيتك } المفيد الإنكار. وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته، ولذلك فصلت جملة { قال أرأيتك } عن جملة { قال أأسجد } كما وقع في قوله تعالىفوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } طه 120. و { أرأيتك } تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به. ومعناه أخبرني عما رأيت، وهو مركب من همزة استفهام، و رأى التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع، ثم يزاد على ضمير الخطاب كافُ خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحداً أو متعدداً. يقال أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالىقل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } في سورة الأنعام 40. وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع، وهو يشبه التوكيد اللفظي. وقال الفراء الكاف ضمير نصب، والتركيب أرأيتَ نفسك. وهذا أقرب للاستعمال، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضميرُ فاعلها نحو قول طرفة

السابقالتالي
2