الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }

تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة { والأرض } وكلمة { على بعض } ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض، وأن ليس قوله { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } تكملة لآيةربكم أعلم بكم } الإسراء 54 الآية. وتغيير أسلوب الخطاب في قوله { وربك أعلم } بعد قولهربكم أعلم بكم } الإسراء 54 إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي. ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم، وقالوا أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً، أبعث الله بشراً رسولاً، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } فهو العالم حيث يجعل رسالته. وكان قوله { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } كالمقدمة لقوله { ولقد فضلنا بعض النبيين } الآية. أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك، كما قال الله تعالى عنهمقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } في سورة الأنعام 124. وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام. وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً. فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله { بمن في السماوات والأرض } ، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشىء على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل. وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل. وتقرر ذلك فيما مضى تقرراً لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنةً إلهية مقررة لا نكران لها. فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد. كما قال تعالى في شأن اليهودأم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً }

السابقالتالي
2