الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }

هذا الكلام متصل بقولهنحن أعلم بما يستمعون به } الإسراء 47 إلى قولهفلا يستطيعون سبيلا } الإسراء 48. فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على العناد والإصرار على الكفر. وذلك يسوء النبي صلى الله عليه وسلم ويحزنه أن لا يهتدوا، فوُجه هذا الكلام إليه تسلية له. ويدل لذلك تعقيبه بقوله { وما أرسلناك عليهم وكيلا }. ومعنى { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة، أو مشيئة تركهم وشأنَهم. وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها، وما قيل غيره أراه لا يلتئم. وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيراً بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله { أعلم بكم } وقعٌ بديع، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء. وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة { إن يشأ يرحمكم } الآية، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب. ومعنى { أعلم بكم } أعلم بحالكم، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم. فجملة { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } مبينة للمقصود من جملة { ربكم أعلم بكم }. والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال، بقرينة مقارنته لقوله { ربكم أعلم بكم } الذي هو كالمقدمة. وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين صريحهما وكنايتهما، ولإظهار أنه لا يسأل عما يَفعل، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته. فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذابَ بأسبابه، بحكمته وعدله، عُلم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما، وفعل الشرط محذوف. والتقدير إن يشأ رحمتَكم يرحمْكم أو إن يشأ تعذيبَكم يعذبْكم، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال. وجيء بالعطف بحرف أو الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان فــــ أو للتقسيم. وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار. وإعادةُ شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين. وجملة { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة. إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعياً. والوكيل على الشيء هو المسؤول به. والمعنى أرسلناك نذيراً وداعياً لهم وما أرسلناك عليهم وكيلاً، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعياً ونذيراً معلوم بالمُشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلاً وملجئاً آل إلى معنى ما أنت إلا نذير. وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين، كما عادت إليهم ضمائرعلى قلوبهم } الإسراء 46 وما بعده من الضمائر اللائقة بهم. و { عليهم } متعلق بــــ { وكيلا }. وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.