الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } * { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } * { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }

جواب عن قولهمأئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } الإسراء 49. أمر الله رسوله بأن يجيبهم بذلك. وقرينة ذلك مقابلةُ فعلكنا } الإسراء 49 في مقالهم بقوله { كونوا } ، ومقابلة { عظاماً ورفاتاً } في مقالهم بقوله { حجارة أو حديداً } الخ، مقابلة أجسام واهية بأجسام صُلبة. ومعنى الجواب أن وهن الجسم مساوٍ لصلابته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى على تكييفه كيف يشاء. لهذا كانت جملة { قل كونوا حجارة } الخ غير معطوفة، جرْياً على طريقة المحاورات التي بينتُها عند قوله تعالىقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة 30. وإن كان قوله { قل } ليسَ مبدأ محاورة بل المحاورة بالمقول الذي بعده ولكن الأمر بالجواب أعطي حكم الجواب فلذلك فصلت جملة { قل }. واعلم أن ارتباطَ رد مقالتهم بقوله { كونوا حجارة } الخ غامض، لأنهم إنما استبعدوا أو أحالوا إرجاعَ الحياة إلى أجسام تَفرّقت أجزاؤُها وانخرم هيكلها، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجساماً ضعيفة، فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة. فبنا أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة، وفي ذلك ثلاثة وجوه أحدها أن تكون صيغة الأمر في قوله { كونوا } مستعملة في معنى التسوية، ويكون دليلاً على جواببٍ محذوف تقديره إنكم مبعوثون سَواء كنتم عظاماً ورُفاتاً أو كنتم حجارة أو حديداً، تنبيهاً على أن قدرة الله تعالى لا يتعاصى عليها شيء. وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل. الوجه الثاني أن تكون صيغة الأمر في قوله { كونوا } مستعملة في الفرض، أي لو فُرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك واستبعدتم إعادة الحياة فيها. وعلى كلا الوجهين يكون قوله { مما يكبر في صدوركم } نهايةَ الكلام، ويكون قوله { فسيقولون من يعيدنا } مفرعاً على جملةوقالوا أئذا كنا } الإسراء 49 الخ تفريعاً على الاستئناف. وتكون الفاء للاستئناف وهي بمعنى الواو على خلاف في مجيئها للاستئناف، والكلام انتقال لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم. الوجه الثالث أن يكون قوله { قل كونوا حجارة } كلاماً مستأنفاً ليس جواباً على قولهمأئذا كنا عظاماً ورفاتاً } الإسراء 49 الخ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية. وفي هذا الوجه يكون قوله { فسيقولون من يعيدنا } متصلاً بقوله { كونوا حجارة أو حديداً } الخ، ومفرعا على كلام محذوف يدل عليْه قوله { كونوا حجارة } ، أي فلو كانوا كذلك لقالوا من يعيدنا، أي لانْتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم لصلابة أجسادهم. وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية وينكشف ما فيه من غموض. والحديد تراب معدني، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ مُختلف الغلظ، ثقيل أدكن اللون، وهو إما محتت الأجزاء وإما مورّقُها، أي مثل الورَق.

السابقالتالي
2 3 4