الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }

معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية. ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة. وهذه هي الوصية التاسعة. والنفس هنا الذات كقوله تعالىولا تقتلوا أنفسكم } النساء 29 وقولهأنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } المائدة 32 وقولهوما تدري نفس بأي أرض تموت } لقمان 34. وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة. والقتل الإماتة بفعل فاعل، أي إزالة الحياة عن الذات. وقوله { حرم الله } حُذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير. والتقدير حرمها الله. وعلق التحريم بعين النفس، والمقصود تحريم قتلها. ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبللِ هذا النهي، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه، تنويهاً بهذا الحكم. وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمرُ به الأرض، كما قال تعالىهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } هود 61، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله، أي عُرفت بمضمون هذه الصلة. واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال. ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعاراً بأن سيَكون في الأمة قضاء وحُكم فيما يستقبل أبقي مجملاً حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد، مثل آيةوما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } النساء 92 إلى قولهوأعد له عذاباً عظيماً } النساء 93. فالباء في قوله { بالحق } للمصاحبة، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء، أي إلا قتلاً ملابساً للحق. والحق بمعنى العدل، أو بمعنى الاستحقاق، أي حَق القتل، كما في الحديث " فإذا قالوها أي لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق.

السابقالتالي
2 3