الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }

هذا تفصيل للحكم المتقدم قُصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم. وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قولهوما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } الإسراء 15 ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل. فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين. والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمراً بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول. ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته. وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله { أمرنا مترفيها } إلى آخره. ومتعلق { أمرنا } محذوف، أي أمرناهم بما نأمرهم به، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم. واعلم أن تصدير هذه الجملة بــــ إذا أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط إذا وجملة جوابِه، لأن شأن إذا أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها. فاقتضى ظاهر موقع إذا أن قوله { أمرنا مترفيها } هو جواب إذا فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سَبْقَ الشرط لجوابه، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرُهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس. وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم. وقرينة السياق واضحة في هذا، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل { أمرنا مترفيها } على { نبعث رسولاً } فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت، فيكون أصل نظم الكلام هكذا وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم. فكانَ { وإذا أردنا أن نهلك قرية } شريطة لحصول الإهلاك، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله

السابقالتالي
2