الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }

لما كان سياق الكلام جارياً في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالىإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين } الإسراء 9 إلى قوله تعالىعذاباً أليماً } الإسراء 10 وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلاً، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلاً لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة، فعطف قوله { وكل إنسان } الخ على قولهوكل شيء فصلناه تفصيلاً } الإسراء 12 عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص. والمعنى وكل إنسان قدرنا له عمله في علمنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا. والطائر أطلق على السهم، أو القرطاس الذي يُعين فيه صاحب الحَظّ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر، يقال اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا، ومنه قول أم العَلاء الأنصارية في حديث الهجرة اقتسم الأنصارُ المهاجرين فطار لنا عُثمان بن مظعون... وذكرت قصة وفاته. وأصل إطلاق الطائر على هذا إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع. فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذَه. وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشاً في قُذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما. وإما من زجر الطير لمعرفة بختِ أو شُؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر. والإلزام جعله لازماً له، أي غير مفارق، يقال لَزمه إذا لم يفارقه. وقوله { في عُنُقِهِ } يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب، أي عمله لازم له لزوم القلادة. ومنه قول العرب تقلدها طَوْقَ الحمامة، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة. ومنه قول الأعشى
والشِعْرَ قلدتُه سَلامَةَ ذَا فا ئش والشيءُ حيثما جُعلا   
ويحتمل أن يكون تمثيلاً لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعيّنون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة، كما قال بشار
كَتب الحبُّ لها في عُنقي مَوْضِعَ الخَاتم من أهله الذِمم   
ويجوز أن يكون { في عنقه } تمثيلاً بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه.

السابقالتالي
2