الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }

عطف علىويدع الإنسان بالشر } الإسراء 11، الخ. والمناسبة أن جملة { ويدع الإنسان } تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلاً، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملاً على ليللٍ ونهارٍ متقضّييَنْ. وهذا شائع عند الناس في أن الزمان مُتقض وإن طال. فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة، وكونهما منتين على الناس، وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار. واكتفي بعدِّها عن عدّ نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمةً أو كله نوراً لم يحصل التمييز بين أجزائه. وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكُفر والإيمان، وللضلال والهدى، فلذلك عُقب به قولهوآتينا موسى الكتاب } الإسراء 2 الآية، وقولهإن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم } الإسراء 9 إلى قولهأعتدنا لهم عذاباً } الإسراء 10، ولذلك عقب بقوله بعدهمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية الإسراء 15. وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن وإيجازه. وتفريع جملة { فمحونا آية الليل } اعتراض وقع بالفاء بين جملة { وجعلنا الليل والنهار } وبين متعلقة وهو { لتبتغوا }. وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار. ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر، وآية النهار الشمس، فتكون إعادة لفظ آية فيهما تنبيهاً على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة، ويصير دليلاً آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيراً بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين. ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كُرَتِهِ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوؤها سببَ إبصار الناس الأشياء، فــــ { مبصرة } اسم فاعل أبصر المتعدي، أي جعل غيره باصراً. وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلماً فإن هذه حقيقة من علم الهيئة، وما أعيد لفظ آية إلا لأجلها. والمحو الطمس. وأطلق على انعدام النور، لأن النور يُظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياءُ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله { وجعلنا آية النهار مبصرة } ، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية. وأطلق وصف { مبصرة } على النهار على سبيل المجاز العقلي إسناداً للسبب.

السابقالتالي
2