الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } * { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً }

بَقي قولهمأو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } الإسراء 92 غيرَ مردود عليهم، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع. فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيراً لما سأله المشركون. والمقصود أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحراً، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم. ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول. والآيات التسع هي بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها، وانقلاب العصا حية، والطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، والرجز وهو الدمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف. وجمعها الفيروزآبادي في قوله
عَصًا، سَنَةٌ، بَحْر، جراد، وقُمّل يَدٌ، ودَمٌ، بعد الضفادع طُوفَانُ   
فقد حصلت بقوله { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات. ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى ــــ عليه السلام ــــ إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً. فالمعنى ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته. وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورةوآتينا موسى الكتاب } الإسراء 2 الآيات، ثم قولهإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الإسراء 9. فتكون هذه الجملة عطفاً على جملةقل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } الإسراء 93 أو على جملةقل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } الآية الإسراء 100. ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون { إني لأظنك يا موسى مسحوراً }. والخطاب في قوله { فسئل } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين. وقوله { مسحوراً } ظاهره أن معناه متأثراً بالسحر، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل مثل المَيْمون والمشؤوم. وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيهيريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } الشعراء 35، والذي قال فيهإن هذا لساحر عليم } ، الشعراء 34 فيكون إعراضاً عن الاشتغال بالآيات وإقبالاً على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم.

السابقالتالي
2