الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

تشنيع لحال الذين ينقضون العهد. وعطف على جملةولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } سورة النحل 91. واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة { ولا تنقضوا الأيمان }. نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله. فالتي نقضت غزلها امرأةٌ اسمها رَيطة بنت سعد التيمية من بني تيم من قريش. وعُبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون. وقد ذُكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل، ولها جوارٍ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع وصِنّارَة مثل أصبع وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، فكان حالها إفساد ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح. والغزل هنا مصدر بمعنى المفعول، أي المغزول، لأنه الذي يقبل النقض. والغَزل فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغَزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطاً غليظاً طويلاً بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج. والقوة إحكام الغزل، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذرٌ لنقضه. والأنكاث ــــ بفتح الهمزة ــــ جمع نِكْث ــــ بكسر النّون وسكون الكاف ــــ أي منكوث، أي منقوض، ونظيره نِقض وأنقاض. والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلاً واحداً جعلتْه منقوضاً، أي خيوطاً عديدة. وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطاً ذات عدد. وانتصب { أنكاثاً } على الحال من { غزلها } ، أي نقضته فإذا هو أنكاث. وجملة { تتخذون أيمانكم } حال من ضميرولا تنقضوا الأيمان } سورة النحل 91. والدخَل ــــ بفتحتين ــــ الفساد، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها.. والدّخل أيضاً الشيء الفاسد. ومن كلام العرب تَرى الفتيان كالنخْل وما يدريك ما الدَخْل سكن الخاء لغةً أو للضرورة إن كان نظماً، أو للسجع إن كان نثراً، أي ما يدريك ما فيهم من فساد. والمعنى تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظّمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة، فيكون وصف الأيمان بالدّخل حقيقة عقلية أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغَدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدّخل مجازاً عقلياً.

السابقالتالي
2