الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلّص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي، إذ الشريعة كلها أمر ونهي، والتّقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب، فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبياناً لكل شيء، فهي جامعة أصول التّشريع. وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتام بشأن ما حوته. وتصديرُهما باسم الجلالة للتّشريف، وذكر { يأمر } { وينهى } دون أن يقال اعدلوا واجتنبوا الفحشاء، للتّشويق. ونظيره ما في الحديث " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً " الحديث. والعدل إعطاء الحقّ إلى صاحبه. وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المُعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته، قال تعالىولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } سورة البقرة 195، ومأمور بالعدل في المعاملة، وهي معاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال، قال تعالىوإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } سورة الأنعام 152، وقال تعالىوإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقد تقدم في سورة النساء 58. ومن هذا تفرّعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب، وحقوق وأقضية، وشهادات، ومعاملة مع الأمم، قال تعالىولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } سورة المائدة 8. ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلّة الشريعة. فالعدل هنا كلمة مُجملة جامعة فهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكّة، فيصار فيها إلى ما هو مقرّر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوّة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية. وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها. والحسَن ما كان محبوباً عند المعامَل به ولم يكن لازماً لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسّره النبي بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ودون ذلك التقرّب إلى الله بالنوافل. ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حُرم الإحسانَ بحكم الشرع. ومن أدْنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ " أن امرأة بَغِيّا رأت كلباً يلهث من العطش يأكل الثّرى فنزعت خُفَّها وأدْلَتْه في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها " وفي الحديث " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبْحة " ومن الإحسان أن يجازي المحسَنُ إليه المحسِن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب.

السابقالتالي
2 3 4