الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ }

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } تكرير لجملةويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً ثم لا يؤذن للذين كفروا } سورة النحل 84 ليبنى عليه عطف جملة { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } على جملة { ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم }. ولما كان تكريراً أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكّدة مقترنة بالواو، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف { من أنفسهم } فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضاً. ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالىثم لا يؤذن للذين كفروا } سورة النحل 84 إلى قولهبما كانوا يفسدون } سورة النحل 88، فهو كالإعادة في قول لبيد
فتنازعا سبطاً يطير ظلالُه كدخان مشعلة يشبّ ضِرامها مشمولةٍ غلثت بنابت عرفج كدخان نار ساطع أسنامها   
مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول. وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل. وعُدّي فعل { نبعث } هنا بحرف { في } ، وعُدّي نظيره في الجملة السابقة بحرف مِن ليحصل التفنّن بين المكرّرين تجديداً لنشاط السامعين. وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها مساغاً للطعن. ولم تخل أيضاً بعد التعريض بالتحذير من صدّ الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيداً يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضرّ أعداءهم. والقول في بقيّة هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها. ولما كان بعث الشهداء للأمم الماضية مراداً به بعثهم يوم القيامة عبّر عنه بالمضارع. وجملة { وجئنا بك شهيداً } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { ويوم نبعث } كلّها. فالمعنى وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمّتك شهيداً عليهم، أي مقدّراً أن تكون شهيداً عليهم يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان حيّاً في آن نزول هذه الآية كان شهيداً في الحال والاستقبال، فاختير لفظ الماضي في { جئنا } للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته. ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقيّة إخوانه الشهداء على الأمم، إذ المقصود من ذلك كلّه تهديد قومه وتحذيرهم. وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى { ونزلنا عليك الكتاب } سورة النحل 89 الآية. وقد علمت من هذا أن جملة { وجئنا بك شهيداً } ليست معطوفة على { نبعث } بحيث تدخل في حيّز الظرف وهو { يوم } ، بل معطوفة على مجموع جملة { يوم نبعث } ، لأن المقصود وجئنا بك شهيداً من وقت إرسالك. وعلى هذا يكون الكلام تَمّ عند قوله { من أنفسهم } ، فيحسن الوقف عليه لذلك.

السابقالتالي
2 3