الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

موقع هذه الجملة موقع التّعليل والتّدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه وعلى لطفه بالمخلوقات، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ودفع الأضرار نبّه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلَى مشاهدةً لأضعف الحيوان، بأن تسخير الجوّ للطير وخلْقَها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنيّاتها، إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدوابّ. فلأجل هذا الموقع لم تعطف الجملة على التي قبلها لأنها ليس في مضمونها نعمةٌ على البشر، ولكنها آية على قدرة الله تعالى وعلمه، بخلاف نظيرتها في سورة المُلك 19أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات } فإنها عُطفت على آيات دالّة على قدرة الله تعالى من قولهولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح } الملك 5، ثم قالوللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم وبئس المصير } الملك 6 ثم قالأأمِنتُم من في السماء أن يخسف بِكُمُ الأرضَ } سورة الملك 16 ثم قال { أو لم يروا إلى الطير } الآية. ولذلك المعنى عقبت هذه وحدها بجملة إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. والتّسخير التّذليل للعمل. وقد تقدّم عند قوله تعالىوالشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره } في سورة الأعراف 54. والجوّ الفضاء الذي بين الأرض والسماء، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متّصلاً بالقبّة الزرقاء في ما يخال النّاظر. والإمساك الشدّ عن التفّلّت. وتقدم في قوله تعالىفإمساك بمعروف } في سورة البقرة 229. والمراد هنا ما يمسكهنّ عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها، وإمساك الله إيّاها خلقه الأجنحة لها والأذنَاب، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط، وخلق عظامها أخفّ من عظام الدوابّ بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفّتْ خفّة شديدة فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوّست أعصاب أصلابها عند إرادتها النّزول إلى الأرض أو الانخفاضَ في الهواء. فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت. فلولا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت، فسُمّي ذلك إمساكاً على وجه الاستعارة، وهو لطف بها. والرؤية بصرية. وفعلها يتعدّى بنفسه، فتعديته بحرف إلى لتضمين الفعل معنى ينظروا. و { مسخرات } حال. وجملة { ما يمسكهن إلا الله } حال ثانية. وقرأ الجمهور { ألم يروا } بياء الغائب على طريقة الالتفات عن خطاب المشركين في قوله تعالىوالله أخرجكم من بطون أمهاتكم } سورة النحل 78. وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف { ألم تَرَوْا } بتاء الخطاب تبعاً للخطاب المذكور. والاستفهام إنكاري. معناه إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخّرات في الجوّ بتنزيل رؤيتهم إيّاها منزلة عدم الرؤية، لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدلّ عليه المرئيّ من انفراد الله تعالى بالإلهية.

السابقالتالي
2