الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }

هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالىوالأنعام خلقها لكم فيها دفء } سورة النحل 5 إلى قولهلرؤوف رحيم } سورة النحل 7. ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى. واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله { مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً } ، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة. فجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } معطوفة على جملةإن في ذلك لآية لقوم يسمعون } سورة النحل 65، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون. وضمير الخطاب التفات من الغيبة. وتوكيدها بـ { إن } ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها. و { الأنعام } اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز. والعبرة ما يُتّعظ به ويُعتبر. وقد تقدم في نهاية سورة يوسف. وجملة { نسقيكم مما في بطونه } واقعة موقع البيان لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة }. والبطون جمع بطن، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء. ومن في قوله تعالى { مما في بطونه } ابتدائية، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون. وما صْدَقُ «ما في بطونه» العلف. ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صْدقُ «ما في بطونه» هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع. و { من } في قوله تعالى { من بين فرث } زائدة لتوكيد التوسّط، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم. ووقع البيان بــــ { نسقيكم } دون أن يقال تشربون أو نحوه، إدماجاً للمنّة مع العبرة. ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة، ثم الكَبِد، ثم غدد الضرع، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم. والفرث الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا. والدمّ إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب. وقد تقدم ذكره عند قوله تعالىحرّمت عليكم الميتة والدم } في سورة العقود 3. ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث. وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها.

السابقالتالي
2