الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }

هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات. فأما وصف جعلهم لله البناتِ اللاتي يأنفون منها لأنفسهم، ووصف ذلك بأنه حُكم سوء، و وصف حالهم بأنها مَثَل سوء، وعرفهم بأخصّ عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم. والظّلم الاعتداء على الحقّ. وأعظمه الاعتداء على حقّ الخالق على مخلوقاته، وهو حقّ إفراده بالعبادة، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعدّ إلى مفعول نحوظلموا أنفسهم } سورة آل عمران 117 مراداً منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن، وهو المراد هنا من هذا الإنذار. وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريباً فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه. والتعريف في { الناس } يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس، لأن ذلك أنسب بمقام الزجر، فليس قوله تعالى { الناس } مراداً به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قولهليكفروا بما آتيناهم } سورة النحل 55 وما بعده من الضمائر، وبذلك لا يكون لفظ { الناس } إظهاراً في مقام الإضمار. وضمير { عليها } صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دالّ عليها. وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالىحتى توارت بالحجاب } سورة ص 32 يعني الشمس، ويقولون أصبحت باردة، يريدون الغَداة، ويقول أهل المدينة ما بين لابتيها أحد يفعل كذا، يريدون لابتي المدينة. والدّابة اسم لما يدبّ على الأرض، أي يمشي، وتأنيثه بتأويل ذات. وخصّ اسم { دابة } في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض. وحرف { لو } حرف امتناع لامتناعٍ، أي حرف شرط يدلّ على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه. وشرط { لو } ملازمٌ للزمن الماضي فإذا وقع بعد { لَوْ } مضارع انصرف إلى الماضي غالباً. فالمعنى لو كان الله مؤاخذاً الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدوابّ معهم، أي ولكنه لم يؤاخذهم. ودليل انتفاء شرط { لو } هو انتفاء جوابها، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة، فإن الناس والدوابّ ما زالوا موجودين على الأرض. ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدوابّ أن الله خلق الناس ليعبدوه، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها، لقوله تعالىوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } سورة الذاريات 56، وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالىوإذ أخذ ربّك من بني ءادم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا } سورة الأعراف 172. فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجِدَه، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وُجد على شرطه، فاستحقّ المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء.

السابقالتالي
2 3