الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ }

لما أُشبع القول في إبطال تعدّد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، نُقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشّرك متّبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشرّ، تقلّدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كِسرى وعوائدُهم، مثلُ بني بكر بن وائل وبني تميم، فقد دان منهم كثير بالمجوسية، أي المَزْدكية والمانوية في زمن كِسرى أبرويش وفي زمن كِسرى أنوشروان، والمجوسية تثبت عقيدةً بإلهين إلهٍ للخير وهو النّور، وإلهٍ للشرّ وهو الظلمة، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام، وإله الشرّ لا يصدر عنه إلا الشرّ والآلام، وسمّوا إله الخير يَزْدَان، وسموا إله الشرّ اَهْرُمُنْ. وزعموا أن يزدان كان منفرداً بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير، فخطر في نفسه مرةً خاطرُ شرّ فتولّد عنه إلهٌ آخرُ شريك له هو إلهٌ الشرّ، وقد حكى هذا المعرّي في لزومياته بقوله
فَكّرَ يَزْدانُ على غِرة فصيغ من تفكيره أهْرُمُنْ   
ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صُوراً مجسّمة، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة. وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبُد صُوَراً محسوسة. وسيأتي الكلام على المجوسيّة عند تفسير قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قولهوالمَجوسَ } في سورة الحج 17. ويدلّ على أن هذا الدين هو المراد التّعقيب بآيةوما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجأرون } سورة النحل 53 كما سيأتي. فقوله تعالى { وقال الله لا تتخذوا إلٰهين اثنين } عطف قصّة على قصّة وهو مرتبط بجملةولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } سورة النحل 36. ومعنى { وقال الله لا تتخذوا إلٰهين } أنه دعا الناس ونَصب الأدلّة على بطلان اعتقاده. وهذا كقوله تعالىيريدون أن يبدلوا كلام الله } سورة الفتح 15 وقولهكذلكم قال الله من قبل } سورة الفتح 15. وصيغة التّثنية من قوله { إلٰهين } أكدت بلفظ { اثنين } للدّلالة على أن الإثنينية مقصودة بالنّهي إبطالاً لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين. ووقع في «الكشاف» توجيه ذكر { اثنين } بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازاً. وإذ نُهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة. وجملة { إنما هو إلٰه واحد } يجوز أن تكون بياناً لجملة { لا تتخذوا إلٰهين اثنين } ، فالجملة مقولة لفعل { وقال الله } لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر

السابقالتالي
2