الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }

عطف على جملةكذلك فعل الذين من قبلهم } سورة النحل 35. وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالاً بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة، فقوله تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة } بيان لمضمون جملةفهل على الرسل إلا البلاغ المبين } النحل 35. وجملة فمنهم من هدى الله إلى آخرها بيان لمضمون جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم }. والمعنى أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل ــــ عليهم السلام ــــ أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا. ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم. و { أن } تفسيرية لجملة { بعثنا } لأنّ البعث يتضمّن معنى القول، إذ هو بعث للتبليغ. و { الطاغوت } جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام. وقد يذكرونه بصيغة الجمع، فيقال الطواغيت، وهي الأصنام. وتقدّم عند قوله تعالىيؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النساء 51. وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهاً للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهملو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } سورة النحل 35 بأن الله بيّن لهم الهُدى، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه، فهو الهادي لهم. والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة، أي ثبتت ولم ترتفع. وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين، كما في قولهومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً } سورة الأنعام 125، وقوله عقب هذافإن الله لا يهدي من يضلّ } سورة النحل 37 على قراءة الجمهور، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسباباً عديدة بعضها جاءٍ من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور. فافْهَم. ثم فرّع على ذلك الأمَر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفاً على السير في الأرض، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل.