الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ }

القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنْفُسهم فإن صيغة المضارع في قوله تعالى { تتوفاهم الملائكة } قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذٍ، فالوجه أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً. وعن عكرمة نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدْر كَرهاً فقُتلوا ببدر. فالوجه أن { الذين تتوفاهم الملائكة } بدل من { الذين } في قوله تعالىفالذين لا يؤمنون بالآخرة } سورة النحل 22 أو صفة لهم، كما يومىء إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى { فلبئس مثوى المتكبرين } ، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالىوهم مستكبرون } سورة النحل 22، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل { الذين تتوفاهم الملائكة } خبراً لمبتدإ محذوف. والتقدير هم الذين تتوفاهم الملائكة. وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام. أخبر عنه وحدث عن شأنه، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال. ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتيالذين تتوفّاهم الملائكة طيبين } سورة النحل 32 فإنه صفةللذين اتقوا } سورة النحل 30 فهذا نظيره. والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك. وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين، على جعل { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية بَدلاً من { الكافرين } في قوله تعالىإن الخزى اليوم والسوء على الكافرين } سورة النحل 27، أو صفة له. وسكت عنه صاحب الكشاف وهو سكوت مِن ذهب. وقال الخفاجي «وهو يصحّ فيه أن يكون مقولاً للقول وغير مندرج تحته». وقال ابن عطيّة «ويحتمل أن يكون { الذين } مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله وخبره في قولهفألقوا السلم } سورة النحل 28 ا ه. واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة. وقرأ حمزة وخلف { يتوفّاهم } بالتحتية على الأصل. وظلم النّفس الشّرك. والإلقاء مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلّة. شبّه بإلقاء السّلاح على الأرض، ذلك أنّهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم. والسَلَم ــــ بفتح السين وفتح اللاّم ــــ الاستسلام. وتقدّم الإلقاء والسَلَم عند قوله تعالى

السابقالتالي
2