الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }

لمّا ذكر عاقبة إضلالهم وصدّهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدّنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكَروا برسلهم. ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هوأساطير الأولين } سورة النحل 24 مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمّي ذلك مكراً بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم فرعون، قال تعالى في قوم صالحومكروا مكراً ومكرنا مكراً } سورة النمل 50 الآية، وقالوكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } سورة الأنعام 123. فالتعريف بالموصول في قوله تعالى { الذين من قبلهم } مساوٍ للتعريف بلام الجنس. ومعنى «أتى الله بنيانهم» استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه، ومنه قوله تعالىفأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } سورة الحشر 2. وقوله تعالى { فأتى الله بنيانهم من القواعد } تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر. وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام. قال عبدة بن الطبيب
فما كان قيس هُلْكُه هُلْكَ واحد ولكنّه بنيان قوم تهدّما   
وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف
بنى لك معروفٌ بناءً هدمته وللشرف العاديّ بانٍ وهادم   
و { من القواعد } متعلق بــــ «أتى». { ومِن } ابتدائيّة، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال، فهو في معنى هدمه. و { القواعد } الأسس والأساطين التي تجعل عَمداً للبناء يقام عليها السقف. وهو تخييل أو ترشيح، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد. والخرور السقوط والهويّ، ففعل خرّ مستعار لِزوال ما به المنعة نظير قوله تعالىيخرّبون بيوتهم بأيديهم } سورة الحشر 2. { والسّقْف } حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت، يجعل على الجدران ويكون من حَجر ومن أعواد، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء. و { من فوقهم } تأكيد لجملة { فسخرّ عليهم السّقف }. ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة. وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنياناً عظيماً ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعاً. فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات. وجملة { وأتاهم العذاب } عطف على جملة { فأتى الله بنيانهم من القواعد }. وأل في { العذاب } للعهد فهي مفيدة مضمون قوله { من فوقهم } مع زيادة قوله تعالى { من حيث لا يشعرون }. فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف. والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجاً فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر.