الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }

{ ثُمّ } للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها تنويهاً جليلاً بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبشريعة الإسلام، وزيادة في التّنويه بإبراهيم ــــ عليه السلام ــــ، أي جعلناك متّبعاً ملّة إبراهيم، وذلك أجلّ ما أوليناكما من الكرامة. وقد بيّنت آنفاً أن هذه الجملة هي المقصود، وأن جملةإن إبراهيم كان أمة } سورة النحل 120 الخ. تمهيد لها. وزيد { أوحينا إليك } للتّنبيه على أن اتّباع محمد ملّة إبراهيم كان بوحي من الله وإرشاد صادق، تعريضاً بأن الذين زعموا اتباعهم ملّة إبراهيم من العرب من قبلُ قد أخطأوها بشبهة مثل أميّةَ بن أبي الصَلت، وزيد بن عمرو بن نُفيل، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم. و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } لأن فيه معنى القول دون حروفه، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير. والاتّباع اقتفاء السير على سَير آخر. وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر. وانتصب { حنيفاً } على الحال من { إبراهيم } فيكون زيادة تأكيد لمماثله قبله أو حالاً من ضمير { إليك } أو من ضمير { اتبع } ، أي كن يا محمد حنيفاً كما كان إبراهيم حنيفاً. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت بالحنيفية السمحة " وتفسير فعل { أوحينا } بجملة { أن اتبع ملة إبراهيم } تفسير بكلام جامع لما أوحَى الله به إلى محمد ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ من شرائع الإسلام مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملّة إبراهيم. وليس المراد أوحينا إليك كلمة { اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم تفاصيل ملّة إبراهيم، فتعيّن أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ. وقوله { وما كان من المشركين } هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم المحكي بقوله { ثم أوحينا إليك } ، وهو عطف على { حنيفاً } على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال، فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبلهولم يك من المشركين } سورة النحل 120، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيهاً لشريعة الإسلام المتبعَة لملّة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك. ونُفي كونه من المشركين هنا بحرف { ما } النافية لأن { ما } إذا نفت فعل { كان } أفادت قوّة النفي ومباعدة المنفي. وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو ما كان ليفعل كذا. فحصل من قوله السابقولم يك من المشركين } النحل 120 ومن قوله هنا { وما كان من المشركين } ثلاث فوائد نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي، وتجدّد نفي الإشراك تجدّداً مستمرّاً، وبراءته من الإشراك براءة تامة. وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزّه عن أن تتعلّق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلناً توحيداً لله بالإلهية ومجتثّاً لوشيج الشرك.

السابقالتالي
2