الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

عطف عظة على عظة. والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم من قولهوما بكم من نعمة فمن الله } النحل 53 وما اتّصل بها إلى قولهيعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } سورة النحل 83. فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قولهويوم نبعث من كل أمة شهيداً } سورة النحل 84. فبعد أن توعّدهم بقوارع الوعيد بقولهولهم عذاب أليم } سورة النحل 104 وقولهفعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } سورة النحل 106 إلى قولهلا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } سورة النحل 109 عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثَلاً وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله. ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملةيوم تأتي كل نفس } سورة النحل 111 الخ. على اعتبار تقدير اذكر، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل الخ. وضرب الله مثلاً لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة الخ. و { ضربَ } بمعنى جعل، أي جعل المركّب الدّال عليه وكوّن نظمه، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقال أرسل فلان مثلاً قوله كيْت وكيْت. والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة الماضي للتشويق إلى الإصغاء إليه، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه، مثلأتى أمر الله } سورة النحل 1 أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال، مثل قد قامت الصلاة. ويجوز أن يكون { ضرب } مستعملاً في معنى الطلب والأمر، أي اضرب يا محمد لقومك مثلاً قرية إلى آخره، كما سيجيء عند قوله تعالىضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء } في سورة الزمر 29. وإنما صيغ في صيغة الخبر توسّلاً إلى إسناده إلى الله تشريفاً له وتنويهاً به. ويفرّق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحوواضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } سورة يس 13 بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه. وقد تقدّم في قوله تعالىإن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة 26، وقوله في سورة إبراهيم 24ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } وجُعل المثلُ قريةً موصوفة بصفات تبيّن حالها المقصود من التمثيل، فاستغني عن تعيين القرية. والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلاً للناس من بعدهم. ويقْوَى هذا الاحتمالُ إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهلَ مكّة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالىفارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } سورة الدخان 10 - 11. وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي.

السابقالتالي
2 3