الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

عطف على جملةمن كفر بالله من بعد إيمانه } سورة النحل 106 إلى قولههم الخاسرون } سورة النحل 109. و { ثمّ } للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل. وذلك أن مضمون هذه الجملة المعطوفة أعظمُ رُتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالىورضوان من الله أكبر } سورة آل عمران 15. والمراد { بالذين هاجروا } المهاجرون إلى الحبشة الذين أذِن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة. قال ابن إسحاق " فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مَخافة الفتنة وفراراً بدينهم " اهــــ. فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى وعذر الذين اتّقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقاً آخر فازوا بفرار من الفتنة، لئلا يتوهّم متوهّم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدّة يوهن جامعة المسلمين فاستُوفِيَ ذكر فرق المسلمين كلها. وقد أومَأ إلى حظّهم من الفضل بقوله { هاجروا من بعد ما فتنوا } ، فسمّى عملهم هِجرة. وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم ــــ عليه السلام ــــوقال إني مهاجر إلى ربي } سورة العنكبوت 26. وقال في الأنصار يحبّون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة. وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة. والفتنة العذاب والأذى الشديد المتكرّر الذي لا يترك لمن يقع به صبراً ولا رأياً، قال تعالىيوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم } سورة الذاريات 13 - 14، وقالإن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } سورة البروج 10. وتقدم بيانها عند قوله تعالىوالفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة 191. أي فقد نالهم الأذى في الله. والمجاهدة المقاومة بالجُهد، أي الطاقة. والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر. وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين. والصبر الثبات على تحمّل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالىواستعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة 45. وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.

السابقالتالي
2