لما سبق التّحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة والرُبُو، والتحذير من زَلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرّهم شُبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي. ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا، فلذلك ردّ عليهم بقوله{ قل نزّله روح القدس } سورة النحل 102 إلى قوله{ ليثبّت الذين آمنوا } سورة النحل 102، وكانوا يقولون{ إنما يعلمه بشر } سورة النحل 103 فردّ عليهم بقوله{ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } سورة النحل 103. وكان الغلام الذي عنوه بقولهم { إنما يعلمه بشر } قد أسلم ثم فتنهُ المشركون فكفر، وهو جَبر مولى عامر بن الحَضرمي. وكانوا راودوا نفراً من المسلمين على الارتداد، منهم بلال، وخَبّاب بن الأرتّ، وياسر، وسُميّةُ أبَوَا عمار بن ياسر، وعمّارٌ ابنهما، فثبتوا على الإسلام. وفتنوا عماراً فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفتنوا نفراً آخرين فكفروا، وذُكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجّاج، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } في سورة العنكبوت 10، فكان مِن هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره. على أن مضمون { من كفر بالله من بعد إيمانه } مقابل لمضمون{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } سورة النحل 97، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدىء بالتحذير تحفّظاً على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفُتح باب الرخصة للمحَافظين على صلاحهم بقدر الإمكان. واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفَر كفروا بعد إسلامهم كانت { مَن } موصولة وهي مبتدأ والخبر { فعليهم غضب من الله }. وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدإ شبهاً بأداة الشرط. وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في غير موضع. ومنه قوله تعالى{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم } سورة البروج 10، وقوله تعالى{ والذين يكنزون الذهب والفضة } براءة 34 إلى قوله{ فبشّرهم بعذاب أليم } في سورة براءة 34. وقيل إن فريقاً كفروا بعد إسلامهم، كما رُوي في شأن جبر غلام ابن الحَضرمي. وهذا الوجه أليق بقوله تعالى{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } سورة النحل 108 الآية. وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون { مَن } شرطية، والشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير، أي مَن يَكْفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله { فعليهم غضب من الله } جواباً.