الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

استمرّ الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصدّ عن متابعته. ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله، وبيان فضله وهديه فابتدىء فيها بآيةينزل الملائكة بالروح من أمره } سورة النحل 2، ثم قفِّيت بما اختلقه المشركون من الطّعن فيه بعد تنقلات جاء فيهاوإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } سورة النحل 24، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأُعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالىوما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه } سورة النحل 64 ثم قولهونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } سورة النحل 89. وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آيةإن الله يأمر بالعدل والإحسان } سورة النحل 90، فلما استقرّ ما يقتضي تقرّر فضل القرآن في النفوس نبّه على نفاسته ويمنه بقولهفإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } سورة النحل 98، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقاً مموّهاً بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالىوإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } سورة النحل 24. ذلك الاختلاق هو تعمّدهم التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفاً لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدّة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محاملهُ مغامز يتشدّقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطراباً من القول ويزعمونه شاهداً باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشىء عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه، وبعضه ناشىء عن تعمّد للتجاهل تعلّقاً بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى { بل أكثرهم لا يعلمون } ، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون. روي عن ابن عباس أنه قال «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغداً ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» اهــــ. وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى { بدلنا } مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها. والمراد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى { والله أعلم بما ينزل }. فيشمل التبديلُ نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالىولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }

السابقالتالي
2 3