الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ } * { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ }

التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين. و ما موصولة أو مصدرية، وهي المشبه به. وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعلآتيناك سبعاً من المثاني } سورة الحجر 87، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين. شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى { المقتسمين }. ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالىإني أنا النذير المبين } سورة الحجر 89، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالىفوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } سورة الحجر 92 - 93. وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم. وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالىأزواجاً منهم ولا تحزن عليهم } سورة الحجر 88. وحرف { على } هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالىولتكبروا الله على ما هداكم } سورة البقرة 185 وقولهفكلوا مما أمسكن عليكم } سورة المائدة 4، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر   
ولفظ { المقتسمين } افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً. وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل. والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلاً، سنذكر أسماءهم، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم، وهو كتاب الإسلام. ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقساماً، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه، فيكون القرآن مصدراً أطلق بمعناه اللغوي، أي المقروء من كتبهم أو قسّموا كتاب الإسلام، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه. وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالاً بيّنه وصفهم بالصلة في قوله تعالى { الذين جعلوا القرآن عضين } فلا يَحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقيْن المذكوريْن آنفاً. ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصّفات والأحوال لا تجزئة الذّات. و { القرآن } هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علماً لكتاب الإسلام. ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل. و { عضين } جمع عضة، والعضة الجزء والقطعة من الشيء. وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفّة. وحذف اللاّم قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها، فعوضوا عنها حرفاً لئلا تبقى الكلمة على حرفين، وجعلوا العوض هاء لأنّها أسعد الحروف بحالة الوقف. وجمع عضة على صيغة جمع المذكر السّالم على وجه شاذ. وعلى الوجهين المتقدّمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما أنزل إليهم من القرآن، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء، فأظهروا بعضاً وكتموا بعضاً، قال الله تعالى

السابقالتالي
2